ينتشي الليبيون بالفن الشعبي كالمرسكاوي والزُكرة والرِيقي في الكثير من مناسباتهم الاجتماعية وتجمعاتهم الشبابية سواء للتسكع على المقهى أو في إحدى الشاليهات الخاصة على البحر. ورغم شيوع رهاب المثلية في المجتمع الليبي إلا أن العديد من أفراد مجتمع الميم ينخرطون في ممارسة الغناء الشعبي بشكل يثير الانتباه وينالون قبولاً اجتماعيًا واسعًا.
ينتشي الليبيون بالفن الشعبي كالمرسكاوي والزُكرة والرِيقي في الكثير من مناسباتهم الاجتماعية وتجمعاتهم الشبابية سواء للتسكع على المقهى أو في إحدى الشاليهات الخاصة على البحر. ورغم شيوع رهاب المثلية في المجتمع الليبي إلا أن العديد من أفراد مجتمع الميم ينخرطون في ممارسة الغناء الشعبي بشكل يثير الانتباه وينالون قبولاً اجتماعياً واسعاً سواء من ناحية تواجدهم في الأعراس وتراقصهم بين المدعويين أو من ناحية تقبل المجتمع لطبيعة ملابسهم وإكسسوارتهم الخاصة، الأمر الذي يطرح استفهاماً غاية في الغرابة: كيف نفسر التناقض بين رفض الليبيين لمجتمع الميم وتقبلهم للعديد من أفراده كفنانين وفنانات شعبيين؟
في مطلع صيف عام 2019 ودّع أهالي مدينة بنغازي الفنان الشعبي علي العريبي من خلال رسائلهم وتعازيهم على وسائل التواصل الاجتماعي. لم يفصح العريبي عن أي هوية جنسية معينة علناً عبر وسائل الإعلام ولكن كان لمتابعيه آراء حولها من خلال تصرفاته ولباسه وتناقل أخبار حفلاته بين العموم، كما أنهم دافعوا من خلال رسائل تعزيتهم في العريبي عن حقه في التخليد كونه أيقونة للفن الشعبي الليبي والذي لطالما أسعد متابعيه من خلال أغانيه وسهراته الليلية والتي لم تكن تخلو من الأجواء الراقصة ذات الطبيعة المنفتحة. ظهر العريبي في معظم حفلاته بملابس ذات طابع فريد من نوعه وكان يخلط ما بين التصاميم الأنثوية والتصاميم الكلاسيكية الشبابية، وهذا ما أضفى عليه ألقاً خاصاً ميّزه عن باقي الفنانين على الساحة الشعبية في ليبيا.
ورغم أن معجبي ومعجبات علي العريبي تقبلوا فنه وشخصيته في المجمل إلا أنه دائماً ما كان يوصف بمسميات وصفات معينة عكست أحكاماً اجتماعية سلبية باتجاه المثليين، فمثلاً سمي بمسميات مثل (قيزا و شِِكشاكة) وهي صفات يُنعت بها الرجل المثلي في ليبيا كدلالة على "التخنث" والنعومة مما يسلّط الضوء على تناقض بين قيم ومواقف هؤلاء المعلنة وأذواقهم وممارساتهم على أرض الواقع.
ليس من المفاجئ أن يكيل المجتمع الليبي بمكيالين حين يتعلق الأمر بالميول الجنسية
ومن الصعب تفسير التناقض بين تقبّل الليبيين لعلي العريبي كفنان ونعتهم له بهذه الألفاظ، ولكن يُرجح أن تعلّق الليبيين بفنهم الشعبي جعلهم يتغاضون إلى حد معين عن اختياراته الشخصية أو ميوله الجنسية المفترضة، كما أنه ليس من المفاجئ أن يكيل المجتمع الليبي بمكيالين حين يتعلق الأمر بالميول الجنسية: حيث قد يتقبل الليبيون بعض الأشخاص المثليين على مضض ولدرجة لا ترنو للقبول الكامل إذا ما كانوا غير مرتبطين معهم بعلاقة قربى أو صداقة فعلية، ويرفضون غيرهم إذا ربطتهم بهم علاقة قريبة من هذا النوع.
لكن قبول المجتمع الليبي لعلي العريبي لم يكن كاملاً ولم يكن غير مشروط. فقد مرّ العريبي بظروف صعبة منها احتجازه في العديد من المرات على أيدي الأجهزة الأمنية في مدينة بنغازي قبل ثورة 2011، وكذلك التعدي عليه من قبل جهات إسلامية متطرفة وتهديده بالقتل أكثر من مرة إن لم يستتب (يُظهر توبته) ويمتنع عن ممارسة مهنة الغناء في الأفراح والمناسبات. كل هذه التحديات والمصاعب اضطرت العريبي لمغادرة ليبيا والذهاب إلى مصر بحثًا عن بيئة آمنة وجمهور أكبر يقدر قيمة فنه وطبيعة شخصيته حيث استمر بالعطاء وكان برنامجه حافلاً على الرغم من هذه الصعوبات.
بعيداً عن حالة علي العريبي نجد أمثلة أخرى على تقبّل الليبيين والليبيات الحذِر لأفراد من مجتمع الميم في إطار الفن الشعبي. ففي مدينة طرابلس ترتاد العديد من النساء محافل اجتماعية للفنانة الشعبية فاطمة الحمصة ثنائية الميول الجنسي والتي غالباً ما تقام حفلاتها في أجواء صاخبة يسودها الرقص والغناء المليء بالكلمات الإباحية والجمل الجريئة. ويتقبل الليبيون والليبيات بعض الرجال المثليين الذين يمتهنون مهنة الزمزامات مع أنها مهنة خاصة بالنساء. والزمزمة هي من أكثر الفنون النسائية شعبية في ليبيا، فهي تعني الترانيم أو الدندنة الصادرة عن المرأة ذات الصوت الغنائي الجَهور. حيث يُحيي عدد من النسوة هذا النوع من الفن في السهرات الليلية وغالباً ما يكون عددهن ثلاث سيدات يتوسطن الجلوس في قاعة الأفراح بغناء شديد الصخب والنشاط فيستخدمن الإيقاع والدفوف ومؤثرات صوتية أخرى تجعل من غنائهن أيقونة مميزة للأعراس والمناسبات الليبية النسائية. فمثلاً يعمل ضياء عبدالرحمن (اسم مستعار) وهو فنان مثلي ضمن فرقة زمزامات شهيرة كعازف إيقاع (دُف وطبلة) رغم أن هذه المهنة تعتبر نسائية بامتياز. لا يستحي ضياء من انضمامه لفرقة شعبية نسائية على الرغم من أن الكثيرين يعتبرون ذلك أمراً غير مقبول أو غير محبذ، فالصورة النمطية الموضوعة للرجل داخل المجتمعات الشرقية وخاصة ليبيا هي وجوده الفيزيائي ضمن مجتمع الرجال في كل المجالات، والفن ليس استثناءاً على ذلك! يقول ضياء: "الفن بشكل عام ليس حكراً على جنس معين، وفن الزمزامات أيضاً عُرف على أنه فن نسائي وآن الأوان لكي يكون فناً للجميع".
"إن الكثيرين يحكمون عليّ من خلال مظهري أو لغة جسدي المستخدمة في الغناء ولكن سرعان ما يكون لدي أصدقاء منهم"
كما يدرك ضياء أن هويته الجنسية هي الأخرى قد تضعه أمام بعض التحديات فيقول: "هويتي الجنسية تعتبر عائقًا في أي مهنة أو وظيفة ولكن لدي ذكاء اجتماعي يجعلني أتدارك أيّ خطر أو تهديد يحل بي". ويحاول ضياء التودد للجميع وإقامة صداقات والتعرف على الحاضرين أثناء حفلاته المقامة في إشارة منه لوجود المثليين الإيجابي في كثير من المواقف والمناسبات، وأيضاً لغرض تقريب المسافات الموضوعة ما بين المجتمع المحافظ والمثليين، حيث يقول "إن الكثيرين يحكمون عليّ من خلال مظهري أو لغة جسدي المستخدمة في الغناء ولكن سرعان ما يكون لدي أصدقاء منهم بمجرد تعرفهم علي بشكل أقرب".
ورغم محاولات ضياء الجادة لتغيير نظرة المجتمع الجامدة تجاه المثليين منذ عقود إلا أن قبولهم يبقى حذراً وبشروط معينة وضمن أطر ضيقة جداً والتي يعتبر الفن الشعبي واحداً منها.
وكمثال آخر على الصعوبات التي تواجه الفنانين الشعبيين المثليين وتدل على التناقض بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية في المجتمع الليبي نورد شهادة سمارة أحمد (اسم مستعار) وهومغني وراقص شعبي ضمن فرقة شعبية معروفة في طرابلس : ”تعرضت للابتزاز في عديد من المرات من قبل رجال الأمن والميليشيات الذين يمسكون البوابات ليلاً، ففي كثير من الأحيان نكون في طريقنا إلى منازلنا بعد الانتهاء من إقامة حفل أو عرس وتعترضنا بوابات أمنية ولا يترددون في تقديم عروض جنسية في سبيل إطلاق سراحي، وهذه تعتبر أهم التحديات التي أواجهها بشكل دوري، فهم يرون أن الشخص المثلي قد يكون منفتحًا ومتقبلاً لفكرة الممارسة الجنسية الارتجالية سواء مع المقربين له أو أفراد آخرين غير معروفين، فهم يحاربون المثلية ويدّعون رفضهم لها في العلن فقط، أما إن سنحت لهم فرصة في ممارسة الجنس مع أي شخص لن يترددوا في فعل ذلك".
إذاً فعلى الرغم من التقبل الحذر لمجتمع الميم في سياقات فنية محددة فإنه ما يزال يُعتبر من أكثر المجتمعات الصغرى هشاشةً وتهديداً في ليبيا، فغالباً ما تطارد الجهات الأمنية الليبية المثليين والمثليات في مجالسهم في المقاهي والأماكن العامة والخاصة وغالبًا ما يتعرض الفنانون والفنانات المثليات للمضايقات والتضييق والتهديد حتى وإن تم تقبلهم مجتمعياً إلى حد ما. لكن الأمل يبقى بأن يكون الفن الشعبي بوابة نحو مزيد من التقبل لمجتمع الميم ومساحة لأفراده للتعبير عن أنفسهم بهامش من الحرية الفنية رغم كل الصعوبات.
Comments
فعلاً ، كان مقال دقيق الوصف والإسقاط على المجتمع الليبي .
Add new comment