يفترش فن الجرافيتي جدران ساحات الاعتصام في بيروت والمناطق اللبنانية الأخرى بشكل غير منظّم، لا يخضع لقواعد التراتبية أو تدرّج الألوان. لوحات متداخلة عبارة عن رسمات لأوجه وأشخاص أو مجسدات وعبارات ثورية ونسوية، تمتزج فيما بينها لتشكل لوحة تعبّر عن الانتفاضة اللبنانية ومبادئها التي تعمل النسويات في لبنان على تطويعها لتكون مبادئ ثورية نسوية تقاطعية.
بدأ فن الجرافيتي أو فن الرسم على الأسطح والجدران مرتبطًا بموسيقى الهيب هوب في مدينة نيويورك خلال ستينيات القرن الماضي، هذا الفن الممنوع إلى حدٍ ما رسميًا تسعى الحكومات إلى مسحه على الدوام خصوصًا أثناء الثورات والاحتجاجات، لأنه يشكّل ملاذًا حرًا للتعبير عن آراء سياسية ومطالب اجتماعية بصورة أبلغ وأفصح من الكلمات.
يتصدر فن الجرافيتي المشهد في الثورة الحاصلة في لبنان حاليًا. وفي جولة سريعة بين ساحتي رياض الصلح والشهداء نلاحظ عددًا من الرسومات التي تؤكد على نسوية الانتفاضة ودور النساء فيها، من بينها رسمة لوردة حمراء على شكل قبضة يد ومكتوب في أسفلها "ثورتنا نسوية"، في تأكيد على أن الثورة هي مجال شرعي وأساسي لمحاربة السلطة البطريركية في مؤسسات الدولة الرسمية والخطاب الذكوري الذي تنتجه.
خلف تلك العبارة مفاهيم ثورية لا نقاش فيها تعمل المجموعات النسوية في بيروت على تطبيقها ونشرها بين المجموعات الأخرى، فلا يكون أي مكان لمتحرش، أو لعبارات تحتقر الأفراد غير معياري الجنسانية كما في هتاف: "كرمال المثليين رح نقضي عاليمين، كرمال العابرات رح نهتف بالساحات". هذه الحركة الثورية النسوية المتشابكة مع الشارع اليوم، انطلقت من كونها حركة نضالية سابقة للثورة، واستمرت خلالها بتنظيم مظاهرات ومسيرات ورفع شعارات مطالبة بحق المرأة اللبنانية، من مثل "حق المرأة بالجنسية، الحضانة، الأمان، تملك جسمها، تحكي باسمها".
لا عجب أن تحتل الشعارات النسوية حيطان بيروت وغيرها من المدن اللبنانية في هذه اللحظة الثورية. فطالما خاضت الحركة النسوية في لبنان معارك ضد النظام الأبوي ومؤسساته وذلك عبر تنظيم المظاهرات واللقاءات وتقديم مشاريع قوانين والمشاركة في الحركات النقابية، وبالتالي الحركة النسوية أو النساء بشكل عام لسن دخيلات على الانتفاضة اللبنانية الحالية والحركة السياسية في لبنان بشكل عام، وبهذا لا يمكن تفسير تغييب أو تجاهل دور النساء السياسي فيما الفترة السابقة للثورة إلاّ أنه نتيجة لظلم وتحيز التاريخ الذي كتبه رجال مجّدوا إنجازات رجال آخرين متناسين دور النساء والنسويات المهم في كافة مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية.
على حائط آخر تتأرجح راقصة الباليه بين القذائف المتساقطة في تعبير واضح على رفض جميع أشكال العنف البوليسي الذي يواجهه الثوار والثائرات مقابل الحق في المرح واللهو وتحقيق إنجازات سياسية في آن واحد، متماهية مع هتاف الثائرات والثائرين: "بدنا نرقص بدنا نغني بدنا نسقط النظام".
خارج إطار الثورة اللبنانية، برز استخدام فن الجرافيتي سابقًا في سياق الثورة المصرية حيث ظهرت العديد من الأعمال التي تصوّر المرأة المصرية ومشاركتها السياسية، مثل اللوحة التي تجسّد تعرّض سيدة للضرب من قبل عناصر الأمن، ولوحة أخرى لفتاة منقبة إلى جانبها راقصة كتأكيد على حق المرأة المصرية في حرية امتلاكها لجسدها والتعبير عنه. هذا التقاطع في استخدام فن الجرافيتي في مصر ولبنان وبلدان أخرى بهدف دعم الحركة النسوية، يؤكد على قدرة هذا الفن التأثير في نفوس المتلقين ودعوتهم لمراجعة أفكارهم المعادية لحقوق النساء، بغض النظر عن التداعيات التي قد تحصل مثل تخريب تلك اللوحات.
ويبرز استخدام فن الجرافيتي كذلك في العديد من المبادرات النسوية في المنطقة العربية منها مبادرة "مشروع ست الحيطة" الذي يهدف إلى إثارة قضية تمكين النساء في مصر من خلال فن الجرافيتي، تلك القضية التي تتشابك فيها جميع مكونات الحياة المجتمعية من المجتمع بحد ذاته إلى الثقافة والسياسة والاقتصاد بكل تأكيد. وتعتبر مبادرة "نون النسوة" المصرية التي انطلقت عام 2012 من أهم المبادرات النسوية التي اعتمدت على فن الجرافيتي أيضًا في مناصرة القضايا النسوية. هدف المبادرة الرئيسي هو تغيير المفاهيم السلبية تجاه النساء في المجتمع (البرلمان والشارع)، أولى حملاتها كانت "جرافيتي حريمي" والتي هدفت إلى ضخ رسائل إيجابية عن المرأة عبر رسومات على الجدران مستوحاة من الثقافة المصرية نفسها إذ اعتمدت على أغانٍ وشخصيات مصرية تعتبر جزءًا من تاريخ المجتمع المصري، مثل أغنية سعاد حسني "البنت زي الولد" وشخصيات نسائية مثل أم كلثوم مع عبارة "أعطني حريتي أطلق يديّ".
لكن بعيدًا عن هذه المبادرات المنظمة فإنه مما يثير الاهتمام أن التعبير باستخدام الجرافيتي في لبنان ليس حكرًا على متخصصي هذا النوع من الفنون، فالمساحات العامة مفتوحة للجميع، لكل من يجيد الرسم أو لا يجيده، لكتابة العبارات والشتائم، وللسخرية من السياسيين والمطالبة برحيلهم جميعًا. هذا المشهد الشعبي الثائر الذي كسر حواجز الخوف المزروعة منذ سنين، تمرّد أيضًا على منطق احتكار الفنون لفئة محددة من الناس، فكما الشارع أصبح ملك الناس، أصبحت الحيطان كذلك، مساحة مفتوحة حرة للتعبير عن الذات وعن مطالب الشارع والفئات المهمشة تحديدًا. ولعل الجرافيتي أصدق تعبيرًا عن الثورة اللبنانية الحالية: فهو تدخل بصري واضح في المساحات العامة، يزعزع الانسيابية البصرية الرتيبة التي سيطرت عليها صور السياسيين منذ عقود، والتي تمردت عليها الثائرات والثائرون، ووفرت وسيلة إضافية للتعبير عن الحركات المطالبة بالعدالة الاجتماعية.
إضافة تعليق جديد