قرّرت أن أكتب هذا المقال بغرض التدوين والتوثيق لجزء بسيط جدًا من هذا العالم القريب منّا والبعيد عنّا في نفس الوقت ولكنّني اكتشفت وأنا بصدد الكتابة أنّ ما أقوم به هو تحطيم لأحكامي المسبقة عن نساء الحارات المصريّة.
"قريبي ولا مش قريبي محدش ليه دعوة، أدخّل اللي عايزة أدخله، والذكر في الحارة ديّه يورّيني نفسه".
جملة لم تُذكر ضمن حوار محتدم في رواية للأديب العالمي نجيب محفوظ، والتي كانت الحارة المصرية محور معظم أعماله، بل هي بداية وصلة من "الرّدح" استمرت قرابة الساعة في إحدى الحارات الجانبية في حي عابدين وكانت بطلته زوجة في العقد الثالث من عمرها وأم لثلاثة أبناء، أمام أحد ساكني الحارة الذي حاول أن يفرض وصايته الذكورية عليها بحجة أن زوجها في السجن وقد رأى رجلا غريبًا يخرج من بيتها. وعقب دقائق من بداية الشجار انضم إلى الرجل معظم أهل الحارة في حرب غير عادلة. ولمن لا يعرف الرّدح، فهو وصلة من الشتائم المُركّبة والمُنغّمة تقوم بها النساء أساسًا في الحارات الشعبية مع هز أكتافهن وتحريك أياديهن خلال الشجار بهدف تقزيم الغريم أو الغريمة أمام الناس.
في شُرفة بناية متهالكة تفصلها عدة أمتار عن البناية المقابلة، وقفت "أم رنا" وبجوارها ابنتاها اللتان تتراوح أعمارهما ما بين 10 و13 سنة، مرتدية الزيّ الرسمي لمعظم نساء الحارات المصرية؛ عباءة سوداء مُزخرفة من الأمام، يُضيّقنها عمدًا عند
دفعتني "أم رنا" إلى التنقل قرابة الشهر بين حارات العاصمة المتمركز معظمها في الدرب الأحمر والحسين والجمالية والمغربلين وباب الشعرية والغورية وحي القلعة والنحّاسين، بهدف اكتشاف وفهم أوضاع النساء وأدوراهن داخلها، ليس فقط في الوقت الراهن ولكن أيضًا عبر الحقب الزمنية المختلفة، لرصد الاختلافات التي طرأت على الدور النسائي داخل الحيز الشعبي.
من رحم الحارة تشكّلت أدوار النساء
الحارة ليست مجرد حيّز مكاني للسكن ولكنها عوالم منفصلة بذاتها داخل حدود العاصمة تحكمها قوانين خاصة وشيفرات خاصة بحاجة إلى تفكيك لفهم عُمقها. عُرفت الحارة الشعبية من قديم الأزل بكونها حيًا صغيرًا في المدينة، يتكوّن من عدة شوارع ضيقة أو أزقّة، يخترقها شارع له بوابة في أوله وفي آخره تُغلق أحيانًا. بيوت الحارة متلاصقة وسكّانها متقاربون.
ونشأت الحارة مع تأسيس القاهرة الفاطمية في القرن العاشر، وفي سنة 1800م قُسّمت المدينة إلى 53 حارة إدارية يرأس كل منها شيخ. ويُشكّل سكان الحارة جماعة يرتبط أفرادها بصلة قرابة أو جيرة أو مصاهرة أو صداقة، وتلك الجماعة متجانسة من حيث طبيعة العمل والنشاط المهني، فهي تتكون عادة من التجار وعلماء الدين والحرفيين المتجمعين في طوائف عائلية أو دينية أو مهنية، وما زالت بعض الحارات حتى الآن تحمل اسم الحِرَف التي يمارسها سكانها مثل حارة الفحّامين والنحّاسين والصاغة والخيّامية1 .
وكان التجانس الشديد والحميمية الاجتماعية في الحارة نتيجة الاشتراك في المكان والروابط الاقتصادية المتعددة بين سكان الحي أكثر من كونه نتيجة التقسيم الإداري، حيث كانت الحياة الاقتصادية والعائلية والاجتماعية تدور حول مبانٍ متلاصقة، وكانت النساء فاعلات ونشيطات في الترتيبات المشتركة والمشاجرات التي كانت تميّز حياة الحارة2 . ووثقت ذلك الكاتبة جوديث تاكر في كتابها "نساء مصر في القرن الـ19"، مؤكدة على أن الشجار يُصوّر قوة العلاقات في الحارة المصرية ويُبين التفاعل الاجتماعي بين النساء في الجيرة3 ، مُستشهدة بالشجار العلني بين "رابعة" و"فاطمة" بحي العطوف بمنطقة الجمالية المسجّل في محكمة الباب العالي ويحمل رقم المجموعة 323، وقضية أخرى بين امرأة وبائع يوناني بخصوص مبلغ بسيط، حيث قام البائع بتوجيه عدة ضربات إلى المرأة في أذنيها، وتم القبض على الرجل من قبل القضاء ونقله إلى القلعة، وتشهد تلك القضايا على حضور النساء في الفضاء العام منذ القدم.
الردح سمة من سمات قوّة الشخصية ويُطلق على من تقوم به بـ"المرأة الجبّارة"
ومن خلال معايشتي الميدانية لعدد كبير من الحارات في أمكنة مختلفة، ما تزال المشاجرات النسائية سمة رئيسية لجميع الحارات الشعبية، وذلك نتيجة القرب والتداخل الشديد، كما تعتبر سلاح ردع قوي لكلّ التجاوزات التي تُمارس ضد النساء. الردح سمة من سمات قوّة الشخصية ويُطلق على من تقوم به بـ"المرأة الجبّارة"، والهدف منه هو توجيه الإهانات إلى الخصم لـ"تجريسه" أي فضحه على الملأ، وتحتوي بعض الحارات قديمًا على مهنة "الردّاحة" التي يُدفع لها للنيل من الخصم.
وبيّن رشاد عبد اللطيف، أستاذ تنظيم المجتمع بجامعة حلوان، في إحدى تصريحاته الصحفية أن الألفاظ والعبارات والجمل المستخدمة في وصلات "الردح" تكون من إنتاج البيئة التي عاش بداخلها الفرد، وهو ما يعني أن اللغة المستخدمة في الردح داخل الحارات والمناطق الشعبية تختلف من واحدة للأخرى، وهذا ما ثبت خلال رحلتي بين الحارات المختلفة، فالسيدات في حارات عابدين يعتمدن في الردح على الشتائم المركبة إلى جانب استخدام الحركات بالأيدي، واستخدام الجسد الملفوف داخل العباءات التي تبرز مفاتنهن للقيام بحركات متمايلة تستفز بها الخصم وهذا حال النساء في الحارات المجاورة بمنطقة القلعة، بينما السيدات داخل حارات منطقة الجماليّة وباب الشعرية يتطور الردح معهن ويصل لضرب الآخر لو لزم الأمر.
النساء.. عصب الحارة
وفيما يتعلق ببنية الحارة، لفت الدكتور سامح إسماعيل، الباحث المتخصص في الفلسفة ودراسات التدين الشعبي، حين التقيت به لإعداد هذا الموضوع، إلى أن العائلة هي البنية الرئيسية للحارة، والحياة داخل الحارة خالية من الخطوط الفاصلة بين العام والخاص، أي أنّ الحارة ملكية جماعية، ويكون التقسيم الهرمي للطبقات الاجتماعية داخلها وفقًا لمبدأ المجاوَرة والتلاصق بين الطبقات في الحارة الواحدة وليس وفقًا لمبدأ التناقض والتفرقة بين حارات غنية وأخرى فقيرة، وتعتبر النساء هي أساس بنية العائلة سواء كانت أدوارهنّ مباشرة أو خفية.
وقسّم مُحدّثنا النساء داخل الحارة قديمًا أولًا إلى نساء طبقة النخبة الغنية من ذوات الأصول التركية أو المصرية وكنّ في عزلة تامة وقلما يتركن الحرملك. فكلما كانت الطبقة الاجتماعية أعلى، زاد التقييد على حرية النساء. أما نساء الطبقة الثانية هن النساء اللواتي يخدمن الطبقة الغنيّة، ومن أشهر أعمالهن التوليد والعِرافة وخاصة الدلّالة، التي ظهرت لأول مرة في العصر المملوكي. كما ظهرت مهنة الخاطبة التي تجمع أخبار وصفات الفتيات في سن الزواج وتنقلها لأسرة العريس الراغب في الزواج.
كما عملت النساء في الحمّامات الشعبية، التي تعود نشأتها إلى العصر الفاطمي، وكنّ يمثلن مصدرًا للمعلومات والعلاقات والاتصالات. وهذا السياق يشير العالم الفرنسي آدم فرانسوا جومار، في دراسة بعنوان "وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل"، إلى أهمية الحمّامات بقوله: "تقضي النساء على الأخص الساعات الممتعة في الحمام، فنحن نعرف أنهن يمضين إليه في كامل ملابسهن وأثمن حليهن، ويتناولن فيه شؤونهن الخاصة، كما يجري فيه الاتفاق على الزيجات"4 .
إلى جانب الأدوار المركزية السابقة التي تلعبها النساء داخل الحارة، هناك العديد من الأدوار الخفية غير المباشرة، وفي هذا الصدد علّق محمد إبراهيم، المتخصص في دراسة التاريخ بجامعة بني سويف وصاحب كتاب "حارتنا كان يا مكان"، خلال مقابلة مع جيم عبر الهاتف، أن النساء في الحارات الشعبية هن عصب الحياة الاقتصادية والمتصرف الأول في ميزانية المنزل، فقد اعتادت نساء الحارة في التغلب على أي ضائقة مالية بعمل "جمعية" بين النساء يجمعن أقساطها من بعضهن البعض مع ترتيب أدوار القابضات للمبلغ النهائي بالاتفاق بينهن. وقد كان هناك نساء تخصّصن في عمل تلك الجمعيات وذاعت شهرتهن في إدارتها، كما مثلت تلك الجمعيات الحل الأمثل لكل من تقوم بتجهيز بناتها.
الجمعيات هي بمثابة نظام اقتصادي موازي تتحكم بدفّته النساء
ما تزال الجمعيات تُقام بانتظام داخل الحارات المصرية باختلاف موقعها الجغرافي، فهي تمثّل الانفراجة لكل ضائقة مالية تمر بها البيوت المتجاورة داخل الحارة، وتتحكم في إدراتها سيدة قوية، وتكون على علم بطباع المشتركات في الجمعية لضمان انتظام الدفع، وتتسارع السيدات لحجز القسط الأول، بينما يذهب آخر الأمر لأكثرهن احتياجًا.
من خلال معايشتي للحارات اكتشفتُ أن الجمعيات هي بمثابة نظام اقتصادي موازي تتحكم بدفّته النساء. وتختلف الجمعيات من حيث المدة والقيمة المحددة لكل قسط، فهناك الجمعيات الكبيرة لغرض تجهيز العروس، وأخرى صغيرة من أجل شراء ملابس الصيف أو الشتاء. ونتيجة للعبء المادي المتزايد على كاهل السيدات داخل الحيز الشعبي، فهن يقمن بتجديد الجمعيات بشكل تلقائي، وفي بعض الأحيان يحدث الخلاف بين مديرة الجمعية وإحدى المشتركات لتأخر دفع القسط؛ فيكون "الردح" هنا باستخدام الألفاظ الشعبية هو الوسيلة الرئيسية التي تلجأ له مسؤولة الجمعية لتجعل من المتخلّفة عن دفع القسط "عبرة" لغيرها، وعقب مواصلة الردح غالبًا ما تُستبعد من الدخول في أي جمعية أخرى.
خالتي فرنسا... ملامح تحمل قسوة ووداعة الحارة المصرية
لمسافة 12 كيلو مترًا سيرًا على الأقدام، بدأت جولتي من "باب الوزير" أحد أهم شوارع منطقة الدرب الأحمر والذي يضم العديد من المساجد والبيوت الأثرية، ثم انتقلت إلى سوق الغوريّة وهو من أشهر المناطق التجارية ويضم عددًا كبيرًا من الحارات والأزقة والدروب التي منها انتقلت إلى منطقة الحسين وخان الخليلي والجماليّة. يُسيطر الرجال في هذه الحارات على التجارة وتكتفي النساء ببيع بعض الفاكهة والخضروات أسفل منازلهن أو بيع الأكسسورات البسيطة بجانب مسجد الحسين.
كنت أمشي وكلّي آذان صاغية إلى الأحاديث المقتضبة والمطوّلة أحيانًا بين الباعة والحرفيين وبين النسوة المطّلات من على الشرفات المتلاصقة، إلى أن التقيت بـ"خالتي فرنسا" لقب أطلقه "حي الجمالية" على السيدة الخمسينية التي تجمع ملامح وجهها بين الحدّة واللطافة. يجتمع الكل حولها رجالًا ونساءً، ذاع صيتها كثيرًا ممّا دفع الممثّلة عبلة كامل إلى الاستلهام منها في الفيلم الشهير "خالتي فرنسا".
"كل تعاملي من وأنا صغيرة لغاية ما بقيت جدة مع الرجالة، ومحدش منهم يقدر يعلّي صوته عليّا
"بيقولوا عليّا معلّمة من وأنا عندي 10 سنين، من أول ما بدأت أشتغل مع أبويا"، هكذا استهلّت "منى" أو كما لقبها أهل الحارة بـ"خالتي فرنسا" حديثها معي. كانت صلبة وقويّة منذ صغرها حيث كانت تعمل إلى جانب والدها في تجارة الفاكهة، كانت ترافقه كظلّه وتتنقل معه بين الأسواق، وتتعامل مع عدد لا حصر له من التجار، وفي هذا الصدد تقول: "كل تعاملي من وأنا صغيرة لغاية ما بقيت جدة مع الرجالة، ومحدش منهم يقدر يعلّي صوته عليّا". لم تسلم منى من عادات وتقاليد الحارة وتزوجت في سن مبكرة، وتركت المجال العام وبحثت عن أعمال تتناسب مع حياتها الجديدة، "اتجوزت وأنا عندي 15 سنة وقعدت من الشغل، بس اشتغلت حاجات كتير أوي من البيت، أنا ما أعرفش أقعد يوم واحد من غير شغل"، من هنا اختارت مهنة الحياكة.
"تطلّقت وأنا عندي 26 سنة وقالّي مش هصرف عليكي ملّيم"؟ لم تعترف عائلتها بالطلاق نظرًا إلى جذورها الصعيدية في المقام الأول وقانون الحارة في المقام الثاني، "إنتي عارفة يعني إيه ست مطلقة في حارة من 26 سنة فاتت". انتقلت منى لشرح الصعاب التي واجهتها بعد قرار الانفصال فوجدت نفسها وحيدة وسط وصاية الحارة التي تنبذ فعلتها النادرة، والاحتياج الشديد للمال للإنفاق على أطفالها،"اشتغلت كل حاجة تخطر على بالك عشان ما أمدّش إيدي لمخلوق، وعملت جمعيات كتير أوي، عشان أشتري الدكان إللي إنتي قاعدة فيه دلوقتي".
رافقت منى يومًا كاملًا في محلها لبيع المأكولات الشعبية (فول وفلافل). تفيق من النوم منذ ساعات الفجر الأولى، تشتري ما يلزمها من أغراض وتجهّز محلها لاستقبال الحرفيين على الساعة الثامنة. واجهت العديد من الصعوبات بسبب منافسة المحلاّت المجاورة وخاصة مع أصحابها الرجال الذين استغربوا ثباتها وعزيمتها. تستكمل مشوارها المختلف عن السائد، "هفّ عليا الجواز واتجوزت تاني بس وحياتك همّا شهرين كويسين بس"، للمرة الثانية تضرب "خالتي فرنسا" قوانين الحارة عرض الحائط وطلّقت مرة أخرى بعد أن أنجبت ابنتها "ريتاج".
الرّدح هو وسيلة مقاومة ضد نظام أبوي يُريد التحكّم في مصائر النساء
لم تتوقف لحظة عن العمل وهي تتحدث معي. ومع حلول الساعة الثالثة مساءً انتهت من العمل، "تعالي بقا نستريح شوية هنا قدام المحل". جلسنا ومعنا والدتها البالغة من العمر 80 سنة. حدثتني منى عن زمن والدتها قائلة: "زمن أمي الراجل هو اللي بيجيب القرش ويتحكّم في زوجته". صمتت قليلا وأشارت بيدها إلى امرأتين في الحارة، "عارفة اللي هناك، دي مطلقة ومعاها عيلة، والتانية مطلقة ومعاها اتنين وهما اللي بيصرفوا عليهم"، في إشارة منها إلى تباين دور المرأة بين زمنها وزمن والدتها، مواصلة حديثها: "الرجالة دلوقتي ما تقدرش تتحكّم في الستّات لأنه عارف إنّها هتقدر تشتغل وتصرف على نفسها وعيالها وبيفكر مية مرة قبل ما يعمل فيها حاجة".
هكذا اختتمت خالتي فرنسا حديثها معي، وانتهت رحلتي الشاقّة قليلًا داخل حارات القاهرة. قرّرت أن أكتب هذا المقال بغرض التدوين والتوثيق لجزء بسيط جدًا من هذا العالم القريب منّا والبعيد عنّا في نفس الوقت ولكنّني اكتشفت وأنا بصدد الكتابة أنّ ما أقوم به هو تحطيم لأحكامي المسبقة عن نساء الحارات المصريّة وخاصّة النساء "الردّاحات" اللّواتي دائمًا ما يُقال عنهنّ بأنّهن "سيّئات الطباع ولا يحترمن أحدًا"، لأكتشف أنّ الرّدح هو وسيلة مقاومة ضد نظام أبوي يُريد التحكّم في مصائرهن.
- 1 مي التلمساني، الحارة في السينما المصرية (1939-2001)،المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى-2014، ص 38 و41.
- 2 جوديث تاكر، نساء مصر في القرن التاسع عشر، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2008، ص 249 و250.
- 3 المصدر نفسه، ص 323
- 4 آدم فرانسوا جومار، ترجمة (أيمن فؤاد سيد)، وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الأولى 1988، ص 216.
إضافة تعليق جديد