حرمان السجينات من حق "الخلوة الشرعية" في اليمن.. تمييز جندريّ يجعل العقاب مزدوجًا

بين جدران السجون في اليمن، تقضي النساء ذوات الأحكام الطويلة حرمانًا متعدد الوجوه. يُغيّب التمييز الجندري حقهنّ الإنساني فيما يُصطلح عليه فقهيًّا وقانونيًّا بـ"الخلوة الشرعية"؛ وهو حق الزوجة المحكوم عليها بالسجن لمدة طويلة الاختلاء بشريكها الشرعي لممارسة العلاقة الحميمة. من المفترض أن تتمّ الخلوة كل فترة زمنية، سواء أسبوعيًا أو شهريًا في أحد ملحقات السجن المخصصة لهذا الغرض. في القانون اليمني يشمل هذا الحق النساء والرجال من نزلاء السجون، لكن تطبيقه ما زال مقتصرًا على الرجال. هذا التمييز بحقّ النساء يُسقط عنهنّ احتياجاتهنّ الجسدية والنفسية، ويترك أثرًا على مستقبلهنّ في مرحلة ما بعد السجن. ويعد هذا النص محاولة لتوثيق قصص بعض السجينات في اليمن، اللواتي قضينَ عمرًا في السجن محرومات من حقهنّ. قانونيًّا ودينيًّا الخلوة من حقّ النساء، فلماذا يُحرمنَ منها في اليمن؟ وماذا تقول إدارة السجون عن ذلك؟ وكيف تتأثّر حياة السجينات بهذا التمييز؟ 

كنت أحلم أن أكون أُمًّا..

"حلمت كثير من السجينات بطفل يحتضنهنّ بعد الخروج، يصبح سندًا لهنّ في مجتمع لا يغفر. لكن حرمانهنّ من الخلوة الشرعية جعل هذا الحلم مستحيلًا، وعند إطلاق سراحهنّ يكون بعضهنّ قد فقد القدرة على الإنجاب". 
تقول أمل جعشان مسؤولة في قسم السجينات في السجن المركزي في العاصمة صنعاء.
هذا واقع العديد من نزيلات السجن ذوات الأحكام الطويلة كما تصفه جعشان. قصصٌ كثيرة مؤلمة لسجينات أمضينَ سنوات طويلة خلف القضبان، وواجهنَ بعد الإفراج عنهنّ واقعًا أقسى من السجن. نساء لم يجدن من ينتظرهنّ عند بوابة السجن. تبرّأ الأهل منهنّ، وتخلّى الأزواج عنهنّ دون تردّد، والمجتمع رفض قبولهنّ من جديد. يُمنع على السجينات التحدّث إلى الوسائل الإعلامية، لهذا لم نتمكّن من الاستماع مباشرة لقصصهنّ، بل تعرّفنا إلى بعضها عبر مسؤولة السجن. تروي جعشان قصة رباب (اسم مستعار)، وهي امرأة في الأربعينيات من عمرها قضت 15 عامًا منها في السجن. عندما أُفرج عنها كان زوجها قد تزوج بامرأة أخرى، وهو ما قد تسبّب لها بحسرةٍ مُزمِنة وووحدة شديدة. لم تتحقّق رغبتها بإنجاب طفلٍ فيما سبق ولن تتحقّق مستقبلًا.
تختلف قصة فريدة (اسم مستعار) في بعض تفاصيلها عن قصة رباب. دخلت فريدة السجن في بداية الثلاثينات من عمرها، بينما ما زالت عزباء. قضت في السجن 17 عامًا وبعد هذه المدّة خرجت فلم تجد أحدًا: لا زوج ولا عائلة. طالما حلمت بأن تكون أمًّا وأن تجد من تعيش لأجله، لكنها وجدت نفسها فاقدةً حتى لأملها في الأمومة.

ترى جعشان أنه كان يمكن تفادي دمار حياة هؤلاء النساء، وأن يصبحن في واقعٍ أفضل يُخفف من قسوة تجربة عيشهنّ سنوات في السجن. لكن استلاب حقهنّ في الخلوة الشرعية زاد قسوة الواقع وجعل العقاب مزدوجًا: سجنٌ وحرمانٌ من الأمومة. 

لا ينكره القانون ولا يُحرّمه الدين

من الناحية القانونية تتوارى الجزئية الخاصة بـ"الخلوة الشرعية" للسجناء والسجينات ضمن سياقات أشمل، حيث لا يذكره النص القانوني بشكل صريح1. على المستوى التطبيقي يُمنح السجناء (الذكور) الحق بالخلوة الشرعية2، بينما تُحرم السجينات (النساء) منه بشكل مُطلق وبلا نقاش. يعكس هذا العُرف السائد تمييزًا قانونيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا بحقّ النساء، وهو تمييزٌ مُجحف وشديد التناقض يمتدّ خارج حدود اليمن3
في نفس الوقت يكفل الدستور اليمني المساواة التامّة بين المواطنين/ات، حيث تنصّ المادة رقم 27 من الدستور على أنّ: "المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز في ذلك بينهم بسبب الجنس، أو اللون، أو الأصل، أو اللغة، أو المركز، أو العقيدة". لكن تطبيق الخلوة الشرعية في السجون يتناقض مع الدستور، إذ تُمنح للرجال حصرًا وكأنها "امتياز" خاصّ بهم، كما يتناقض مع الاتفاقيات الدولية المُلزِمة بالمساواة بين الجنسين، وضمان الحقوق الأساسية للمحتجزات/ين التي توقّع عليها الجمهورية اليمنية. نذكر هنا: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا). تنصّ هذه الأخيرة على حق السجناء الاتصال بالعالم الخارجي وتحديدًا السماح بالزيارات الزوجية وتطبيق الحق من دون تمييز: "تُتاح للسجينات إمكانية ممارسة هذا الحق على قدم المساواة مع الرجال"4.  

يعتبر المحامي خالد الكمال، أنّ الفجوة القانونية الحاصلة جرّاء عدم ذكر الخلوة الشرعية بشكل صريح وواضح في القانون، تمثّل رغبة المشرّع بترك المسألة لـ"تقديرات إدارة السجون". وهذه الأخيرة قرّرت منحها للذكور واستبعاد السجينات بذريعة "حجج اجتماعية وأخلاقية".  

وإذا افترضنا بأنّ مرجعيّة المجتمع هي الدين الإسلامي، فلا يوجد أيّ تعارض بين الإسلام وحق السجينات المتزوجات في الحصول على خلوة شرعية مع شركائهم. وهذا ما تؤكّده الفتوى التي حصلت عليها "جيم" بعد تواصلها مع مركز "دار الحديث بمعبر"، الذي يضم قسمًا خاصًا بإصدار الفتاوى الدينية: "الدين الإسلامي لا يرى أي غضاضة في منح السجينة المتزوجة حقها في الخلوة الشرعية بشريكها، بل يؤكد عليه كحق أساسي لا ينبغي حرمان السجين -رجلًا كان أم امرأةً- منه لاعتبارات تتعلق بالعيب أو العُرف أو العادات والتقاليد، بل على العكس فإن الإسلام يدعو إلى الحفاظ على الروابط الأسرية حتى في أصعب الظروف".

من ناحية نفسية، يؤكد الإخصائي النفسي صخر الشدادي، على أهمية العلاقة الحميمية للسجينات "في دعم صحتهن النفسية، وحرمانهن من حق الخلوة الشرعية يزيد مشاعر العزلة والنبذ، ويضاعف معدلات الاكتئاب والقلق، بل قد يدفع إلى سلوكيات عنيفة وانطوائية".

ووفقًا للشدادي، "من الضروري الحفاظ على الروابط الزوجية داخل السجن، ومنح السجينة هذا الحق، إذْ يعد أحد العوامل التي تسهم في إعادة التأهيل والاستقرار النفسي، في حين أن اسقاط هذا الحق يُحوِّل العقوبة إلى أداة تدمير نفسي، وليس إلى وسيلة إصلاح".

لا مرحبًا بطفلٍ جديد!

لا تنكر الإدارات الأمنية المسؤولة عن السجون في اليمن عدم وجود أساس قانوني أو ديني للإجراء التمييزي بحق السجينات في مسألة الخلوة الشرعية، لكنهمالا تتردد في إعلان عدم استعدادها منحها للنساء لأسباب تراها منطقية. 

يوضح عبد العزيز العلفي، مسؤول أمني في السجن المركزي بصنعاء، أن إدارة السجون اليمنية تمنع السجينات من ممارسة الخلوة الشرعية لعدّة مبررات، أبرزها احتمال حدوث حمل. ويرى العلفي أنّ السجون غير مجهزة لرعاية الأطفال الرضع، "مما قد يشكل عبئًا إضافيًا على إدارة السجن". أما السبب الثاني، فيتمثّل برأيه في عدم القدرة على توفير الفحوصات الطبية الدورية للسجينات وأزواجهنّ بما يضمن عدم انتقال الأمراض، وهو ما ترى فيه الإدارة خطرًا صحيًا داخل السجن. وأخيرًا، يستدرك العلفي مشيرًا إلى سببٍ ثالث، وهو ترك العديد من الأزواج لنسائهم بعد دخولهنّ السجن، أو الامتناع عن زيارتهنّ: ما يجعلنا نرى أن توفير هذا الحق لن يكون له أثر حقيقي. 
وهنا تجدر الإشارة إلى معاناة أكبر تلحق بالمرأة السجينة في اليمن،تتجاوز حقها في الخلوة الشرعية وتصل إلى حدّ تدمير مستقبلها بالكامل ، إذ إنه بعد انقضاء المحكوميّة، يظل إطلاق سراح النساء مرهونًا بحضور فردٍ بالغ من (المَحارِمِ5). وفي حال عدم وجود ولي أمر ذكر لاستلام السجينة بعد خروجها، قد تبقيها الإدارة في السجن بشكل تعسفيّ6

عقوبة من غير جريرة! 

بينما تظل هذه القضية حبيسة التحفظات القسرية ومحاذير العيب، لا يُمكن النظر إلى حرمان السجينات من حق "الخلوة الشرعية" كإجراءٍ إداريّ عابر، بل هو انعكاسٌ عميق لواقع التمييز الجندري داخل المنظومة القانونية والاجتماعية في اليمن؛  تمييز يؤدي إلى معاقبة النساء السجينات مرتين: الحكم القانوني (أي فترة السجن)، والحرمان من حقهنّ الإنساني.
فالأمر لا يتوقف عند تقييد حريتهنّ، بل يمتدّ إلى غياب الاعتراف بإنسانيتهنّ وحقوقهنّ الأسرية والطبيعية، ما يُفضي إلى التفكك الأسري وحرمان النساء من الأمومة، إضافةً إلى النظرة المجتمعية التي تجعلها تتحمل أعباءً مضاعفة، وكأنها تستحق عقوبة ممتدّة حتى بعد انقضاء فترة السجن.
الخلوة الشرعية حقّ إنساني يكفله الشرع والقانون، لكن السجينات في اليمن يواجهنَ إقصاءً تامًا وتغييبًا بحجة العادات والتقاليد. لا توجد تشريعات واضحة قد تحمي حقوقهنّ داخل السجون، وليس هناك أي حراك حقوقي أو قانوني ملموس قادر على تحريك القضية. وهكذا تبقى مسألة الخلوة الشرعية قابعة في الظل، لا تلقى اهتمامًا من الجهات المختصة أو من المجتمع المدني. 

  • 1

    لا يتضمّن قانون تنظيم السجون رقم 48 لسنة 1991 في اليمن مادة محددة وواضحة تتعلّق بالخلوة الشرعية. لكن تذكر المادة حق 30 السجين/ة بـ"مقابلة أسرته وذويه وأصدقائه". للاطلاع على نص القانون مراجعة المرصد اليمني للمعلومات. 

  • 2

    في عام 2005، أعلنت وزارة الداخلية اليمنية عن مشروع بناء غرف خلوة شرعية في السجون. وعلى هامش الافتتاح، قال مدير السجن المركزي في صنعاء، العقيد مطهر علي ناجي، أنه: تمّ بناء أربع غرف ملحقة بحمام ومطبخ صغير ليتسنّى للسجناء الاختلاء بزوجاتهم فيها مرة كل شهرين…لم يذكر حق النساء السجينات بغرف الخلوة الشرعية. 

  • 3

    ا ينحصر الاجحاف بحق السجينات في الحصول على خلوة شرعية مع أزواجهنّ على اليمن. في السعودية التي كانت سباقة في إقرار قانون الخلوة الشرعية للسجناء عام 1976، حصرته بالرجال وذلك من خلال استخدام مصطلح "بزوجاتهم". في الجزائر يغيب أي ذكر للحق بالخلوة الشرعية للرجال والنساء، وهو أمر يثير جدلاً قانونيًا خاصة وأنه استثناءٌ عالميّ في مجال حرمان المساجين من هذا الحق. للمزيد، قراءة: 
    ليراتني، فاطمة الزهراء. ناصري، سفيان. حق السجين في الاختلاء بزوجه داخل السجن، دراسة مقارنة بين النظام العقابي الإسلامي والأنظمة العقابية الوضعية. المجلد 10 العدد 2، مجلة البحوث في الحقوق والعلوم السياسية، جامعة تيارت/الجزائر، 2024، ص263-296. 

  • 4

     القاعدة 58 من قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء. للاطلاع على نص قواعد نيلسون مانديلا كاملاً. 

  • 5

    جمع مَحرَمٍ، وهو ذو الرَّحِم في القرابة. 

  • 6

    طالبت منظمة العفو الدولية السلطات اليمنية بوضع حدّ لشرط وجود محرم (ذكر من العائلة القريبة) لإطلاق سراح النساء من السجون، بعد انتهاء مدة المحكومية القانونية. لقراءة المزيد.

شيماء القرشي

محامية وصحافية من اليمن مهتمة بقضايا المرأة 

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.