ثلاث هدايا من كتاب "في رفقة الفقدان" الذي جمَع إيتيل عدنان بنادين جوني

يشغل الإرثُ حيّزَه من دون أن يستأذن أحدًا. ومع ذلك، غالبًا ما يُهمل، عمدًا أو سهوًا، تفاديًا لمشقّة التذكّر، فالألم من الفقد، والخوف من قدرته على زعزعة ما خلناه ثابتًا. بالفعل، التذكّر فعلٌ موجعٌ جدًا. كان أنينُه جليًّا في بوح صديقات المناضلة اللبنانية نادين جوني1 للكاتبة فاطمة فؤاد. وبوحُهنّ هذا لم يُلغِ سرديّةَ فاطمة أو روايتها كمُتأمّلةٍ ستتأثّر حتمًا بكل هذا الدلْوِ الجارف، وبشخصِ نادين نفسها التي كانت تلتقيها في الساحات منذ زمنٍ يُشعرنا الكتابُ أنه ما زال هنا، على بُعْدِ سنتمتراتٍ منّا. 

لم تكن رفقةُ الفقدان بالنسبة إلى المقربّات من نادين رفْقةً وحيدةً، إذ آنستْها رفقةُ فقدانٍ آخر تمثّلَ بخسارة الكاتبة والشاعرة والفنّانة إيتيل عدنان،2 اليونانية-السورية الأصل، وحكاياتُ مَن رافقنَها في رحلتها وترحالها وصولًا إلى انعتاقها من كنبة الألم التي ظلّت تنام عليها حتى غفوتها الأخيرة. أمّا لقاءُ الحِدادَين، فنسجَهُ كتابٌ لـ"ورشة المعارف"، صدر مطلع عام 2023 بعنوان "في رفقة الفقدان: التاريخ الشفوي والإرث النسوي".

هديّة الكتاب الأولى: كسر احتكار التأريخ واحتضان المسار

في الكتاب المؤلّف من 149 صفحة، تستعين المُعِدّات بأدوات إنتاج المعرفة النسوية التي تتحدّى أنماطَ الإنتاج المعرفي المُهيمنة مع ما يصاحبها عادةً من منهجيات جامدة ومتحيّزة، ليوظِّفْنَها أخيرًا في خدمة سياقٍ محلّي متعثّر وغير متصالح تمامًا مع تاريخه. يطلب فريق العمل مِن أكثر المتأثّرات بالموت والفقد، حياكةَ سياقهنّ الشخصي ومكوّناته الأكثر حميميّةً في معرض أرشفةٍ ثائرةٍ على السائد تُصيّرُ رفيقات الدرب "بطلاتٍ" للإرث الآخذ في التشكّل. في هذه الحالة، الشخصيات الرئيسة هنّ رفيقات إيتيل عدنان وقارئاتها النّهمات، وشقيقة نادين جوني وصديقاتها اللواتي لطالما تضامنَّ معها، جُورًا تلو الآخر، إلى أن بكينَ دمًا على رحيلها المفاجئ والمبكر الذي به تكلّلت كل مظالم حياتها. 

نحمل الكتاب أو نزوره إلكترونيًا، ونشرع في القراءة، ثم نبدأ بالتململ. متى تبدأ القصص وتُلملَمُ الأجزاء التي نبحث عنها؟ أينَها من النص؟ لمَ كل تلك المسافات والمقدّمات؟ ينتقد رأسُنا ابتعادَ الأساس من البداية، وهو على الأرجح محقٌّ في ذلك. نتعب ونتوقّف لهنيهة، أو لأيّام. نخال أننا بذلك نظلمُ الكتاب وصانعاته، لكن سرعان ما نتيقّن من أننا في الواقع نُوليه حقّه. فما يُولد ولادةً صعبةً، لا بدّ من أن يُقرأ قراءةً صعبةً. 

تستعين المُعِدّات بأدوات إنتاج المعرفة النسوية التي تتحدّى أنماطَ الإنتاج المعرفي المُهيمنة مع ما يصاحبها عادةً من منهجيات جامدة ومتحيّزة

ثمّ ومن باب الإنصاف، نُفهِمُ رأسَنا المُرهَق أن كلّ تلك المقدّمات لديمة قائدبيه وتالة حسن وصفاء ط. ما هي إلا انعكاسٌ لتمسّكهنّ بالمسار كقصّةٍ تستحق أن تُروى بحدّ ذاتها، وأن تُفردَ لها مساحةٌ وازنة لئلا تُهمَّش تجاربُ المُعِدّات مع الراحلة في موتها والماكثة في حياتها، ولا رؤيتهنّ لصناعة الأرشيف كمجالٍ معرفي نسوي يخفّف من عمق الشقوق والفجوات.  

أما عالمة الأنثروبولوجيا نارود سروجيان التي كانت تقتفي آثار إيتيل، والناشطة فاطمة فؤاد التي كانت تسبر الحدادَ على نادين، فكلتاهما تعمّد، كل على طريقتها، عدم افتعال أي مسافة وهميّة كاذبة مع الإرث الشفوي الذي يصلهنّ. كذلك الأمر بالنسبة إلى القيّمات على الترجمة والتحرير اللواتي، هنّ أيضًا، عرفْنَ نادين وإيتيل، وإن بأشكالٍ ودرجاتٍ مختلفة. ولعلّ اختيار فريق الكتاب وضعَ المسارات الشخصية والجماعيّة في مستهلّه كما في طيّاته، مع ما اشتمل ذلك على شرحٍ للسياق والمشاغل وخلفيّات الإرث النسوي والتاريخ الشفوي ونشأتهما، يعبّر عن نيّةٍ جديّةٍ في إظهار كيف أنّ المسار، كالزمن الذي نجادله، خطٌّ غيرُ مستقيم، وكيف أن العناية بالأرشيف هو عنايةٌ بالنفس أيضًا. 

من هنا، لا عجب في أن تكون تلك النفس المؤرِّخة والمُوثِقّة للإرث الشفوي والمتأثّرة به، حاضرةً معه بكل مكنوناتها وخساراتها الشخصيّة، لا بل ملتحمة به، كاسرةً عبر مقاربة "إشهار التورّط" احتكارَ أدوات التأريخ الجامدة وسيادة نهوجه التقليدية المُكرِّسة للمسافات تحت شعار "الموضوعية"، وذلك لصالح مؤرِّخاتٍ جديداتٍ يستمددن شرعيتهن من حقيقةٍ مُدوّيةٍ ببساطتها: لقد عرفنا الراحلة وأحبَبْناها.

هدية الكتاب الثانية: لا مكان للهرميّات 

ونحن نطالع الكتاب - على مراحل - نُصاب بآلام قريبات كلّ راحلة وقريناتها، بخاصة نوال، المقّربة من إيتيل، وندى، شقيقة نادين، وبادية، رفيقة نادين في نضالها ضد إجحاف المحاكم الجعفرية. لا نعود نبحث بالضرورة عن الشخصية وسماتها، حتى أنّنا ننسى، للحظات، عمّن يدور هذا القسم الذي نتصفّحه. يصبحُ تركيزُنا مصبوبًا على تأمّلات "أهل الفقيدة"، إن صحّ التعبير، فنغرق في متاهات "الأهل"، ونتأوّه معهم، ونضحك معهم. ثمّ نبني، من خلال رحلة إعادة تركيب الذاكرات، ذاكرتَنا البصرية الخاصة بالتركيب المُرسَل أو المشهد الموصوف، بمعنى آخر، أرشيفَنا الشخصي الجديد عن الراحلات، سواء أعرفناهنّ أم لا. تركيبٌ ما بعده تركيب... إلى ما لا نهاية.

نُبحر في الكتاب. نرى كيف يربط بين تململ إيتيل من كون الناس في منطقتنا "يعيشون تحت رقابة كل من حولهم" و"الفساد الفساد جوا جوا العمامات" التي تكسر بها نادين رقابة العمامات عليها. ثمّ نرى نادين مساءَ يوم جُمعة مستلقيةً على سريرها حاضنةً ابنها كرم بين ذراعَيها، ونرى أمّها ماجدة التي تبكي معها حين يعود ويُسلخ منها كرم من جديد. 

في قسمٍ منفصل آخر، نرى إيتيل متأمّلةً بافتتان شريكتَها سيمون فتّال وهي ترقص بحريّةٍ مطلقةٍ على طاولة بيلياردو خلال سهرةٍ بيروتية في منزل "مارك" قبل اندلاع الحرب، ثمّ نرى إيتيل في غرفة سارة التي استلهمت القوّة منها فيما كانت تخوض معاركها مع اللّغة من منفاها الصغير. 

تحلُّ الذكريات وتفاصيلها ومشاعر صاحباتِها، فتخْفت على الإثر الفروقاتُ الشاسعة بين الشخصيّتَين، موضوع الكتاب، على مستوى الخبرات والرؤى وأساليب العمل وأمكنته وأزمنته. الشخصيتان اللتان ما كانت الحياة لتجمعهما تتّحدَان أخيرًا في موتهما، على امتداد مساحةٍ ورقيّةٍ ورقميّةٍ لم تخطر قطّ في بال أيّ منهما. مساحةٌ خلقها كتابٌ أراد هو أيضًا أن يكون رفيقًا للفقيدتَين، فقرَّر نقل قصصهما وتخليد عطاءاتهما من منظورات عددٍ من معاصريهما ومحبّيهما. 

تحلُّ الذكريات وتفاصيلها ومشاعر صاحباتِها، فتخْفت على الإثر الفروقاتُ الشاسعة بين الشخصيّتَين، موضوع الكتاب، على مستوى الخبرات والرؤى وأساليب العمل وأمكنته وأزمنته

في أنواع الفقدان والحداد التي يتناولها الكتاب إذًا، تمحو لابساتُ الحداد حدودَ الفقد من دون أن يوحّدنَ معانيه. فتنجح بادية التي ذاقت العلقم نفسه الذي شربتْ منه نادين، مع ندى ونهاية وصفا وسارة ف.، من جهة، ومع نوال وتانيا وأليس وسارة م.، من جهةٍ أخرى، في تحجيم الفرق بين الأديبة الأستاذة والعاملة الناشطة؛ وبين النسوية التي لم تلقّب نفسها والنسوية التي رفعتْ اللّقب عاليًا؛ وبين الشاعرة المُغتربة عن بحرها الأبيض المتوسط والأمّ المنفيّة عن ابنها وأمومتها.

غريبٌ كم أنّ المحبّة كانت حاضرةً، من دون أن تُلفظ، شرطًا مرافقًا للمقاربة الأرشيفية المعتمدة في هذا الإصدار. عن طريقها، استطاع هذا الأخير تجاوز هرميّاتٍ جيليّةٍ وطبقيّةٍ وأكاديميّةٍ، مفسحًا المجال أمام لقاءاتٍ أكثر أفقية وأقلّ تمييزًا بين أولئك النساء "المميّزات" اللواتي تركنَ أثرًا كبيرًا فينا وفي حكاياتنا الشخصيّة والجمعيّة، وعلّمْنَنا الكثير، وبكرمٍ غفير.

هدية الكتاب الثالثة: الأرشفة مباشرةً من القعر

مَن تعمل على حفظ إرثٍ نسويّ اليوم إنما تعمل على توثيق الذكريات والدروس والأسئلة والإجابات غير المكتملة بالتزامن مع صراعها الشخصي من أجل النجاة. تُصغي وتُدوّن وتُلملم وتتأمّل في حداد غيرها، من قعرِها، ومن حدادِها هيَ على ما فقدتْه في السابق وتراه يفلت الآن من بين يديْها وسْط حاضرٍ يعجّ بانهياراتٍ تصيب شظاياه كلّ شيء تقريبًا، مهما ادّعى (بعضُ) المجتمع التعافي. 

صحيحٌ أنّ التاريخ والإرث النسويَّين، الشفويَّين وغير الشفويَّين، هما في صلب اهتمامات "ورشة المعارف" ومنشوراتها، لكن أنْ يصدر في العام 2023 كتابٌ عن إرث راحلتَين كبيرتَين وحِدادِ دوائرهما ومحاولاتها العسيرة على الشفاء، لا يمكن أن يكون محضَ صدفةٍ بعد ثلاثة أعوام ونيّف من اشتداد الأزمات المعيشية والحقوقية والتنظيمية في لبنان. فنادين جوني الشابة غادرتْنا قُبيل اشتداد الأزمة الأخيرة، وإيتيل عدنان المُخضرمة غادرتْنا في خضمّ عجزنا، ما دفع بالمهتمّات بالأرشفة واحتمالاتها إلى تجديد النيّة واستنفار الهمم، على الأرجح، استباقًا لنسيانٍ يُتقنُ الوصولَ بسرعة.

مَن تعمل على حفظ إرثٍ نسويّ اليوم إنما تعمل على توثيق الذكريات والدروس والأسئلة والإجابات غير المكتملة بالتزامن مع صراعها الشخصي من أجل النجاة

كثيراتٌ لم يكن بمقدورهنّ التفكير أو تخيّل ما ينبغي أن نفعل وسط الدمار والنسيان المُرادَين لنا، وهذا أمرٌ مشروع. أخريات لمسْنَ حاجةً ملحّةً لتوطيد العلاقة بالماضي وتفاعلاته مع الواقع كفعل بناءٍ في وجه آلة الهدم. ربّما شعرنَ بوجوب استغلال ما يُنظر إليه كـ"وقتٍ ضائع" أو مسدود الأفق لإثبات أن لا وقتًا ضائعًا هنا، وأن التأمّل والتلاقي والتدوين في الظلمة مقارباتٌ ضرورية لحركةٍ أرشيفية راسخة في حاضرها، متشوّقة للقاء جذورها، مُدركة لأهمية انبثاقها من سياقها ولأجله، مُحفِّزة لعمل الذاكرة بلا هوادة، مُنشّطة للإدراك الحسّي لا النظري فقط، وموقظة لبصيص أملٍ لا سبيل لها غيره ما دام خيارها البقاء هنا والبناء هنا.  

ليس صدفةً إذًا أن يصدر كتابٌ عن ماضٍ متوغّلٍ في الحاضر من قعر انهيارٍ أفرزه تاريخٌ لم يُحَلّ. وليس صدفةً أن تنشرَ ناشطاتٌ نسويات إصدارًا يطرق باب الراحلات ليحاكي هموم لابسات حِدادٍ تنبض قلوبُهنّ بالحياة. ربما كان يريد أن يعيد إليهن الكلمة الثانية من ثنائية الموت والحياة... أو الموت والتغيير، كما يحلو للكتاب أن يسمّيها.

أخيرًا، ليس صدفةً أن يتبع هذا الإصدار، وبأشهرٍ قليلة، كتاب "طواحين الهوى" الذي تروي فيه سيّداتٌ من أهالي مفقودي الحرب الأهلية اللبنانية قصصهنّ مع الفقد والأسئلة التي لا تنتهي. إنها الزيارات الحتميّة للماضي الذي لا يزال حاضرًا، والتي تُعلّمنا أن أرشفةً تقودُها المعنيّات بها هي التي تشكّل مقاربةً نسويةً لإنتاج معرفي يتّسم بشيءٍ من الهدوء والوقار اللذين يسمحان لما سيوُلد بأن يبقى. 

ذاك الإنتاج غير المتكلّف الذي تمنّينا لو توفّر لنا أكثر، ها هو يُهدى إلينا وإلى مَن بعدنا، من قعر انهيارنا.

 

 

  • 1. نادين جوني كانت ناشطةً نسويةً لبنانيةً وأمًّا ناضلتْ حتى الرمق الأخير من أجل تنزيه قوانين الأحوال الشخصية من ذكوريّتها وانتزاع حقّها في حضانة ابنها الذي لم يُسمح لها برؤيته سوى لمدة 24 ساعة أسبوعيًا. توفيت نادين في سنّ التاسعة والعشرين بشكلٍ صادمٍ آلَمَ كل من أحبّها وذلك في حادث سيارةٍ صباح 6 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
  • 2. إيتيل عدنان كانت شاعرةً وكاتبةً ورسامةً وصحافيةً وأستاذةً جامعيةً عُرفت بكثرة تنقّلاتها ومنازلها وهوياتها. ألهمتْ أجيالًا من الكاتبات والفنّانات والمفكِّرات النسويات. وُلدت في عشرينات القرن الماضي لأمٍّ يونانيةٍ وأبٍ سوري، وتوفيت في عشرينات القرن الحالي، تحديدًا في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 عن عمرٍ ناهزَ 96 عامًا.