الرجعية المُقنّعة: عن أدباء القرن العشرين الذين خذلوا النساء

إنّ من أوهام الحداثة، كما يقول أدونيس، وَهْمَ الزمنيّة؛1 وهو الاعتقاد بأنّ حداثة الفكر متساوقة بالضرورة مع حداثة الزمن، كأنْ يُنْتَظَرَ من الأدباء في هذا العصر أن يكونوا تقدّميّين في موقفهم من حقوق النساء، لكنّ الحقيقة أنّ كثيرًا منهم يحمل أفكارًا رجعيّة ضدّهن، على الرغم من أنّ سابقين لهم حملوا أفكارًا حداثيةً تجاوزَت عصرهم، وكلّفهم ذلك ما كلّفهم، على غرار قاسم أمين والطاهر الحدّاد.

إنّ النخبة من رجال الأدب الذين خذلوا النساء في مسيرتهنّ الدامية لنيل كافّة حقوقهنّ كانوا أخطر على النساء من أعدائهنّ التقليديّين في المجتمع الأبوي؛ وذلك لأسباب أربعة على الأقلّ:

  • اطّلعَت هذه النخب جيّدًا على الحداثة الغربية، وتخرّج كثيرٌ من أفرادها من جامعاتٍ أوروبية، وهم يدينون للغرب بتكوينهم، ولا ينكرونه.
  • يحظى هؤلاء باحترامٍ كبيرٍ في الأوساط الأكاديمية داخل أوطانهم وخارجها، وتُرجمت أعمالهم إلى أكثر من لغة، وتخرّجَت على أيديهم أجيالٌ من النقّاد والأدباء متأثّرين بهم.
  • غالبية هؤلاء الأدباء لهم أعمالٌ مُقرّرةٌ في البرامج المدرسية في كثيرٍ من البلدان العربيّة.
  • يُعدُّ بعض هؤلاء من الثوريّين والمقاومين في سبيل قضاياهم الوطنية.2

إنّ رجعيّة موقفهم من النساء هي رجعيّةٌ مُقنّعةٌ بالحداثة التي يزعمونها، متترّسة بتخريجاتٍ أدبيّةٍ وفلسفيةٍ "راقية"؛ من قبيل الاستشهاد بأقوال كارهي النساء من الفلاسفة الغربيّين، لاسيّما الفيلسوف الألماني آرتور شوبنهاور (Arthur Schopenhauer)،3 وهي تخريجات تدفع عنهم شبهة المحافظة والاتّكاء على أصولٍ دينية، ولو أنّ بعضهم  استند عليها لكن لا على شاكلة الفقهاء.

واقتصرَ تركيزنا هنا على القرن العشرين لأنّ دعوات تحرير المرأة في الوطن العربي بدأَت أساسًا في ذلك القرن، حيث ارتفعَت شيئًا فشيئًا أصوات حناجر شجاعة وسط جماهير من المحسوبين على النخب كان يُنتظر منهم على الأقلّ مساندة تلك الدعوات، بل إنّهم تألّبوا ضدّ دعاة تحرير المرأة واصطفّوا في صفّ المحافظين. ومن ذلك مثلًا أنّ باحثًا يدعى منصور فهمي، ناقش أطروحةً في جامعة السوربون في فرنسا عن "أحوال المرأة في الإسلام" عام 1913، ولمّا عاد إلى مصر تعرّض لهجومٍ شرس، "ولم تدافع عنه السلطات الجامعية وأزيح عن التدريس فيها، وعاد إلى الجامعة بعد ثورة 1919 في مصر على الاستعمار البريطاني لكنّه لُجم وأُلزِم الصمت، ولم يصدر كتابه بالعربية إلّا سنة 1997، أي بعد حوالي 80 عامًا على صدوره".4 وهناك كذلك توفيق الحكيم الذي ألّف مسرحيّةً عام 1926 بعنوان "المرأة الجديدة"، سخر فيها من دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة، وإن عبّر عن ندمه على تلك المسرحية بعد ذلك.5

الهدف من المقال ليس تقزيم هؤلاء الأدباء، وإنما تفكيك أصول نظرتهم إلى النساء على الرغم ممّا أتيح لهم لبناء موقفٍ تقدّمي.

هل يمكن اعتماد أعمال الأدباء حجّةً على موقفهم من النساء؟

يُعَدّ هذا السؤال من الأسئلة التقليدية في نظريات النقد الأدبيّ، وما ساد لمدّةٍ طويلةٍ هو الخلط بين المؤلّف والراوي، حتّى نشر رولان بارت (Roland Barthes) سنة 1968 مقالًا شهيرًا بعنوان "موت المؤلّف" (La mort de l’auteur)، كما نشر ميشيل فوكو (Michel Foucault) بعده بسنتَين مقالًا أكّد فيه هذا الفصل بعنوان "ما المؤلّف؟" (?Qu’est-ce q’un auteur). وتشدّد الشكلانيون الروس6 في الفصل بين الاثنين، ودعوا إلى قراءة النصّ من دون ربطه بحياة صاحبه، في سعيهم إلى أن يكون الأدب علمًا مستقّلًا بذاته.7 والفرق الأساسي بين المؤلّف والراوي هو أنّ الأوّل ابن الأرض، هو شخصٌ ذو لحمٍ ودمٍ قام بكتابة النص بيده أو فوّض بإرادته كتابة النص لغيره في حال كان ضريرًا مثلًا، والثاني - وهو الراوي - ابن الورق؛ أي لا وجود له في الحياة خارج النص. الأوّل إذن كائنٌ فانٍ، والثاني كائنٌ يستيقظ باستمرارٍ كلما قُرئ كأنّه يعيش في زمنٍ سرمديّ. ولا يتطابق المؤلف مع الراوي إلا في جنسٍ أدبي وحيدٍ هو السيرة الذاتية؛ فالذي كتب النص هو نفسه الذي يروي، أمّا في الروايات والأقاصيص فإنّ الراوي ليس المؤلّف بالضرورة. هذا رأي الشكلانيّين الذي ساد لمدةٍ طويلة، وقد جاءت بعد الشكلانيّة نظريّاتٌ راجعَت علاقة النصّ بمحيطه، مثل التداولية التي تتشدّد في ربط كلّ نصٍّ بسياقه الذي كُتِب فيه.

نوال السعداوي على سبيل المثال استعرضَت في كتابها "عن المرأة" عشرات الروايات والقصص وحكمَت على أصحابها بنصرة النساء أو خذلانهنّ انطلاقًا من وضع المرأة في كلّ قصّة

إذن يظلّ الحسم في مدى تمثيل الراوي للكاتب معلّقًا نظرًا لجدليّته، ولخصوصية كلّ نصٍّ وصاحبه، ويُطْلَب التحفّظ والتروّي أكثر خاصّةً في الروايات التي تطرق مواضيع "التابوهات"، كموضوع حقوق النساء؛ لأنّ إطلاق الأحكام على الكتّاب من منظور أعمالهم قد يوقع في التناقضات، فنوال السعداوي على سبيل المثال استعرضَت في كتابها "عن المرأة" عشرات الروايات والقصص وحكمَت على أصحابها بنصرة النساء أو خذلانهنّ انطلاقًا من وضع المرأة في كلّ قصّة، وفوق ذلك اقترحَت سيناريوهاتٍ أخرى لأدوار النساء في تلك القصص ترفع من مكانتهنّ، وهي تنتظر من الكتّاب الدفع في هذا الاتّجاه، كقولها عن طه حسين: "يُعتبر طه حسين من أكثر الأدباء العرب تقدّمًا في نظرته للمرأة، إلّا أنّ هذه النظرة لم تنعكس بوضوح في أشهر أعماله"،8 وتماثل نوال حتّى بين أقوال شخصيات القصّة وأفكار الكاتب، في استدلالها مثلًا على مسايرة نجيب محفوظ لثقافة مجتمعه من قول شخصية أبٍ لابنته من إحدى روايات محفوظ: "إنّكِ مسؤولة عنّا جميعًا، وخصوصًا إخوتكِ السبعة".9

إنّ التقاط الأدلّة من القصص لاتّهام أصحابها قد يتهافت أمام فرضيّةٍ أخرى هي أنّ إسناد دورٍ تقدّمي للمرأة في روايةٍ ما يدلّ على أنّ صاحبها تقدّمي، وهذا لا يصمد أمام وضعية أديبٍ كتوفيق الحكيم الذي أَسْنَدَ دور البطولة في إحدى مسرحياته إلى "شهرزاد" وجعل الرجل كائنًا ضعيفًا أمامها، على الرغم من أنّ الحكيم - باعترافه هو - "عدوٌّ للمرأة".

لكن لعلّ ما يبرّر موقف نوال السعداوي هو أنّ الكثير من الأدباء لا ينكرون ذلك التماهي بينهم وبين رواتهم وحتّى شخصياتهم، ولا أدَلّ على ذلك من توفيق الحكيم الذي أقرّ بندمه، كما ذكرنا، على إحدى مسرحياته التي سخر فيها من الدعوة إلى سفور المرأة، حتّى اعتبرَتْ بعضهنّ أنّ "الكاتب يتوهّم أنّه يكتب الشخصيّة، في حين أنّ الشخصية هي التي تكتب الكاتب".10

لذا، فإنّنا سنعتمد بالأساس الكتب الفكرية للأدباء ومحاوراتهم وحقائق عن مواقفهم، ولن نُحِيل على نصوصهم الأدبية إلّا لضرورةٍ مقتضاة. وهذا هو الموقع الذي اتّخذه مثلًا الناقد محمود طرشونة لإثباته موقف الأديب التونسي محمود المسعدي من النساء، يقول: "إذا أردنا أن نعرف موقف الكاتب من المرأة فلا نبحث عنه في أعماله الإبداعية، بل في مقالاته ومحاضراته وحواراته".11

تناقض في الأقوال والأفعال: سمةٌ عامّةٌ للأدباء المعادين للنساء

يعترف توفيق الحكيم صراحةً بهذا التناقض، بل هو يطمئن إليه؛ إذ يقول: "كثيرًا ما يخلط الناس أمر نظرتي وعلاقتي بالمرأة، ويتّهموني أحيانًا بالتناقض؛ إذ يرون أنّي أحمل عليها مرّة، وأشيد بذكرها أخرى [...] والحقيقة أنّي في كلا الحالَين أعتقد ما أقول".12

ومحمود المسعدي، الأديب التونسي الذي طالب بمراجعة مجلّة الأحوال الشخصيّة لتحجيم حريّة المرأة التي "انفلتَت" حسبه، كان شديد التعلّق بزوجته شريفة، و"لمّا توفّيت بكاها بحرقة بالغة، ثمّ مات بعدها بربع قرنٍ ودُفن في قبرها تنفيذًا لوصيّته".13

العقّاد من أكثر "المؤوّلين" لنجاحات المرأة، تأويلًا ينزع عنه إيجابياته ليصبح سلبيًا خالصًا، وذلك درءًا لشبهة التناقض في موقفه وتقويةً للقاعدة التي "لا استثناء لها"

وانتبهَت نوال السعداوي إلى سلسلة التناقضات في أقوال الأديب والصحفي والشاعر المصري عبّاس محمود العقّاد؛ فمن جهةٍ يقرّر أنّ المرأة أقلّ ذكاءً من الرجل، وبذلك هو متفوّقٌ عليها، أمّا ذكاء المرأة إن "تذاكَت" فهو "كيد" حسبه، مزروع فيها بالفطرة، وليسَت مسؤولةً عنه!14

والعقّاد من أكثر "المؤوّلين" لنجاحات المرأة، تأويلًا ينزع عنه إيجابياته ليصبح سلبيًا خالصًا، وذلك درءًا لشبهة التناقض في موقفه وتقويةً للقاعدة التي "لا استثناء لها"؛ فلن يشفع للنساء لدى العقّاد أن يحرزن جائزة نوبل مثل العالِمة ماري كوري (Marie Curie)؛ فهي وفق قوله "لم تعمل كمستقّلةٍ عن زوجها، ولم يكن عملها من قبيل الاختراع والابتداع، وإنّما كان كلّه من قبيل الكشف والتنقيب".15 واعتبر العقّاد أنّ الحظوة التي نالتها النساء في العصور الذهبية للحضارة العربية إنّما هي راجعةٌ لكون المرأة "مطلبًا من مطالب المتعة"،16 والصفات التي تُفضّل في المرأة في ثقافة المجتمع العربي كالنظافة والحنان والحياء، هي صفاتٌ راجعةٌ إلى الرجل في الحقيقة؛ هو الذي خَلَق فيها هذه الصفات،17 والمجالات التقليدية التي كثيرًا ما تحضر فيها المرأة؛ كالطبخ والخياطة، أظهر فيها الرجل تفوّقًا عليها.18 هكذا يسلب العقّاد كلّ شيءٍ من المرأة، ليتركها كائنًا خاويًا.

ويبدو أنّ العقّاد تلقّى الاقتدار على التأويل السلبي لنجاح النساء من بشّار بن برد (القرن الثاني للهجرة/ الثامن للميلاد) الذي اعتبر أنّ النساء لا يصلحن لنظم الشعر، فلمّا سُئل عن الخنساء قال: "أمّا تلك فلَها أربعٌ خصيّ".19

والأدباء لمّا يتحدّثون عن المرأة فإنّهم ينزّلونها بين اثنتَين: الأمّ والعاهرة، وهو تقسيمٌ ثنائيّ غلب على الأدب العربي ولم يستطع أيّ أديبٍ عربي من الشرق حسب نوال السعداوي التحرّر منه.20 وتتساءل الكاتبة والمؤلفة والباحثة التونسية ألفة يوسف إن كان الانشطار بين "الأمّ المستحيلة جنسًا والحبيبة المستحيلة إعلاءً هو منطلق كتابة الرجلِ المرأةَ في الرواية؟".21

الأدباء لمّا يتحدّثون عن المرأة فإنّهم ينزّلونها بين اثنتَين: الأمّ والعاهرة، وهو تقسيمٌ ثنائيّ غلب على الأدب العربي ولم يستطع أيّ أديبٍ عربي من الشرق حسب نوال السعداوي التحرّر منه

لكنّ السؤال الملحّ هو: لماذا يكره هؤلاء الأدباء النساء؟ أو لماذا هم حانقون على نيلهنّ حقوقًا قريبةً أو لا تكاد من حقوق الرجال؟ لماذا لم تخلع عنهم حداثتُهم الفكريّة رجعيّتَهم تجاه النساء؟

لهذا الكره دوافع مكتومة ومعلنة، يمكن ذكر أهمّها في هذه النقاط:

  • التنصيص القرآنيّ والنبويّ على تفوّق الرجل

بعض الأدباء المتحيّزين متديّنون، وهم يستندون كالفقهاء على آياتٍ قرآنيّةٍ وأحاديث نبويّة، لكنّهم كثيرًا ما يتّخذون تلك الآيات مدخلًا لاستدلالاتٍ "حداثية" على دونية النساء، وهذا ما يميّزهم عن الفقهاء التقليديّين الذي يكتفون عادةً بالتشديد على الأصل الديني لتفوّق الرجل. هؤلاء الأدباء إذن أشبه بالفقهاء المندسّين في ثوب الحداثة ليخادعوا به قرّاءهم؛ فالعقّاد مثلًا يعتقد في أنّ الرجل متفوّقٌ على المرأة بدرجةٍ عملًا بالآية ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228]، وبآية القوامة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾ [النساء: 34]، واعتبر أنّ القوامة مستحقّةٌ بالفطرة للرجل، وذلك الفضل الموهوب للرجل لا يبطل حتّى بإنفاق المرأة على نفسها.22 صدرَت أفكار العقّاد هذه في العام 1959 وهو في سنّ الحلم والحكمة، على الرغم من أنّ شابًّا تونسيًا هو الطاهر الحدّاد قال قبله بعشرين عامًا: "لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرجل عن المرأة في مواضع صريحة، وليس هذا بمانعٍ أن يقبل بمبدأ المساواة الاجتماعية بينهما عند توفّر أسبابها بتطوّر الزمن ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التامة".23

  • المرأة رأس الخراب

يصدر هذا الموقف عن زكي مبارك، دكتور في الأدب وأديب وطالب لدى طه حسين. يقول: "المرأة تملك أصول الشهوات، وهي باب الدمار والخذلان، والمرأة هي الجحيم، هي البلاء [...] ولها مداخل في الفتنة يعجز عنها إبليس".24 ولا يخفى أنّ هذا الموقف له أساسٌ دينيّ ماثلٌ في قصّة الخلق، فعلى الرغم من أنّ القرآن حمّل كلًّا من آدم وحوّاء مسؤولية الخطيئة، فإنّ الأدباء "الحريصين" على البحث العلمي نقّبوا في الإسرائيليات والأناجيل ليوجّهوا التهمة إلى حوّاء في إغوائها آدمَ بالأكل من الشجرة.

  • المرأة/الخيانة

"فهي تتلعّب وتراوغ وترائي وتكذب وتميل مع الهوى وتنسى في لحظةٍ واحدةٍ عشرة السنين الطوال"،25 وقد بنى العقّاد روايته الوحيدة "سارّة" على وسواس رجل - هو العقّاد نفسه - من خيانة حبيبته "التي ظلّ أثرها المرير باقيًا في قلبه حتّى نهاية حياته".26 ويقول في مقدّمة الرواية: "وحتّى يتّخذ قراره عليه استبيان الحقيقة للعثور على دليلٍ على إخلاصها... أو خيانتها له. ولكن كيف؟ وما السبيل إلى ذلك؟".27 هذه الخيانة التي عدّها فطرةً في النساء توجب عند العقّاد المعاملة بالمثل، وينظم في ذلك شعرًا داعيًا فيه الرجل إلى عدم الإخلاص للمرأة: "خُذها ولا تُخلص لها أبدا *** تخلص إلى أغلى غواليها".28

  • المرأة/عائق

نشير إلى أثرَين من أهمّ آثار محمود المسعدي، وكلاهما أُدرج في المقرّرات الرسمية للأقسام النهائية بتونس، وهما "السدّ"، و"حدّث أبو هريرة قال..."، وصورة المرأة فيهما لا تعكس بالضرورة رأي المسعدي ولكن تعبّر بقوّةٍ عن الاعتقاد الراسخ لدى كثيرٍ من الأدباء المتحيّزين الذين يرون المرأة حجر عثرة في طريق الرجل. أمّا "السدّ"، فبطلها هو "غيلان" الذي يصبو إلى تشييد سدٍّ بين نهرٍ وجبلٍ تحرسه "صاهبّاء"، الربّة المتغطرسة التي ترفض أن يتوق إلى مقامها الإنسان، فيتحدّاها غيلان لكنّ "ميمونة" رفيقته كانت في كلّ مرّةٍ تحذّره من مغبّة التحدّي. يقول غيلان وميمونة تحاول ثنيه عن المضيّ في بناء السدّ: "أنا لا أخون ما أعدُه بنفسي من الأعمال". وتقول ميمونة: "ولو متَّ مع ذلك. الموت لا يبالي بالإيفاء بالوعد".29 وفي رواية "حدّث أبو هريرة قال..." يهجر البطل أبو هريرة كلّ امرأةٍ يعاشرها، إيمانًا منه بأنّهنّ "حقارة نسوة"، ويدفع إحداهنّ بعنفٍ وهي "ريحانة" قائلًا: "دَعِينِي يا هاته فقد كدْتِ أنْ تقطعي عنّي سبيلي"، وهو أيضًا الذي دفع راهبةً إلى الوقوع في عشقه وممارسة الحبّ معه لينتهي إلى قناعةٍ هي أنّ "المرأة لا تكون إلّا واهنًا مِقطاع الجهد".30 وقد حمل هذا التواتر لصورة المرأة الدونية الناقدَ محمود طرشونة – على الرغم من عمله بمقولة الفصل بين الكاتب والشخصية - على التشكيك في أنْ تكون تلك الصورة هي فعلًا موقف الكاتب من النساء وإن لم يتحامل عليهنّ كما تحامل عليهنّ أبو هريرة. والذي قوّى شكوكه هو أنّ المسعدي أبدى تحفّظًا في أحد الحوارات على تحرّر النساء.

  • المرأة/الحرّية

على الرغم من أنّ محمود المسعدي من جيلٍ طليعي آمن بـ "جِدّة القديم" في ضرورة الانفتاح على الحداثة مع الحفاظ على أصالة الهويّة، وعلى الرغم من تقلّده منصب وزير التربية القومية في عهد الاستقلال، فإنّه أبدى تحفّظه على مجلّة الأحوال الشخصية التي تُعتبر مكسبًا تاريخيًا لحقوق النساء في تونس، ولو أنّها لم تبلغ حدّ المساواة التامّة مع حقوق الرجال؛ إذ أبدى تخوّفًا من درجة تحرير المرأة، وطالب بإدخال تنقيحاتٍ على المجلّة "في كنف الوفاء للقيم الأخلاقية والدينية والخصوصية الذاتية القائمة عليها شخصيتنا الحضارية حتّى لا يصاب التطوّر والرقيّ بعلّة مسخ وتنكّر للذاتية، أو ضلالٍ في مسيرة تجديدها وتحديثها".31 وانتهَت نوال السعداوي بعد اطّلاعٍ جيّدٍ على كتاباتٍ قصصيةٍ في المنطقة الناطقة بالعربية إلى أنّ معظم الكتّاب المعاصِرين يُظهرون "كراهيتهم للمرأة الجريئة المتحرّرة".32

  • المرأة/المادّة

إنّ اتّهام المرأة بالضعف أمام إغراء المادّة شائعٌ في الثقافتَين العربية والغربية على السواء. وغذّى الأدباء المتحيّزون هذا الاعتقاد بتأصيله فلسفيًا وثقافيًا. ففي مسرحيّة "بجماليون" لعدوّ المرأة33 توفيق الحكيم، تخون "جالاتيا" حبيبها الفنّان "بجماليون" مع "نرسيس" رمز الجمال والغرور في الثقافة الإغريقية، وينتهي "بجماليون" إلى هذه الحقيقة المستندة على أسطورة الإله "جوبيتر": "إنّي الآن أدرك وسائل الإله العظيم جوبيتر، عندما كان يحبّ فتياتٍ من المخلوقات، لقد كان يتّخذ لكلّ فتاةٍ الصورة التي تفهمها وتروق في عينها! هكذا اتّخذ شكل بجعةٍ جميلةٍ للرقيقة "ليدا"، واتّخذ شكل ثورٍ قويّ للحسناء "أوروبا"، واتّخذ شكل قطعٍ ذهبيّةٍ للفاتنة "داناييه"، بهذا استطاع أن يملك مشاعرهنّ! الجمال والقوّة والمال، آه، حتّى الآلهة ينبغي لها أن تتذرّع بهذه الأشياء للوصول إلى قلب المرأة!".34

إنّ اتّهام المرأة بالضعف أمام إغراء المادّة شائعٌ في الثقافتَين العربية والغربية على السواء. وغذّى الأدباء المتحيّزون هذا الاعتقاد بتأصيله فلسفيًا وثقافيًا

ويرى العقّاد أنّ الخضوع للأقوى فطرةٌ في المرأة؛ بدليل أنّ "الأمم المهزومة تشاهَد فيها طوائف من النساء يجهَرن بمخادَنة الجنود الفاتحين [..] لأنّ الخضوع للغلبة ألصق بطبيعة الأنوثة الفطريّة"،35 بينما لا يرى تسرّي الرجال المتزوّجين بعشرات النساء من أسرى الأعداء!

  • المرأة/البيت

إنّ الاعتقاد في أنّ البيت هو المكان الأوّل والأخير للنساء راسخٌ في الثقافة الأبوية العربيّة، وهو اعتقادٌ راسخٌ أيضًا لدى المتحيّزين من الأدباء، لكنهم يخفون أصول ذلك الاعتقاد تحت لافتاتٍ حداثية؛ فتوفيق الحكيم يرفض حبس المرأة في البيت، فالمرأة يجب أن تخرج للتعلّم، حتّى تعود لذلك الحبس مثقّفة!36 

  • المرأة/ الفنّ

يقرّ توفيق الحكيم بأنّ المرأة ملهمة كلّ فنّان، فـــ "ما من فنّانٍ على هذه الأرض أبدع شيئًا إلّا في ظلّ امرأة"، وقبل أن ننصدم بصدور هذا الاعتراف من عدوٍّ للمرأة مثله، يسبقنا بالاستدراك والتوضيح فيقول: "وهذا القول منّي غريب [...] وكلّ ما في المسألة أنّي دائمًا أفرّق بين المرأة كشيءٍ يوحي بالجمال، وبين المرأة كمخلوق [...] فلو أنّ المرأة تمثالٌ من الفضّة فوق مكتبي [...] لما كان لها عندي غير تقديسٍ وإكبارٍ لا يحدّهما حدّ، ولكنّها للأسف شيءٌ يتكلّم ويتحرّك".37 وتجسّد هذا الاعتقاد في مسرحيّة "بجماليون" حيث يتحوّل حبّ الفنّان لتمثاله "جالاتيا" إلى كرهٍ ومقتٍ بعد أن نفثَت الإلهة "فينوس" الروح فيها: "آه يا فينوس [...] لقد وضعتِ أنتِ في آية الآيات روح هرّة: أي روح امرأة [...] لقد جعلتِ هذا الأثر الرائع ينقلب إلى كائنٍ تافه".38 لكن ماذا لو كانت المرأة هي الفنّانة؟ يجيب الحكيم عن هذا بيقينٍ بارد: المرأة لا تصلح للفنّ، فـ "إنّما يعيش الفنّان من أجل الفنّ، وتعيش هي من أجل الفنّان".39

  • المرأة/ الجسد

"إنّما المرأة الجميلة هي عدوّ الرجل المفكّر"،40 هذا الإقرار المُصاغ في جملةٍ أدبيّةٍ من الحكيم هو تلطيفٌ للثنائية الفقهية "المرأة/ فتنة". ويحوّل الحكيم جسد المرأة إلى سلاحٍ تشهره في "وجهنا نحن الرجال" و"تقف به في وجه أعمالنا". وتكتم هذه الجمل اعترافًا خجلًا بعجز الرجل عن التماسك أمام فتاةٍ جميلة، ويمكننا أن نتوّقع ما يترتّب عليه هذا الإقرار من "تدابير ضابِطة" مثل رفض سفور المرأة أو تبرّجها، لكن طبعًا لا يمكننا أن نتوقّع أن يترتّب عليه دعوة الرجل إلى تحمّل مسؤولية ضبط مشاعره وتصرّفاته.

ولأنّ العقّاد كالحكيم لا ينكر "غواية" الجسد الأنثوي، فإنّه يرى حكمةً في فرض الحجاب في الإسلام، من دون أن ينسى التعبيرات البلاغيّة لتبرير أصلٍ رجعيّ من قبيل: "لا حجاب في الإسلام بمعنى الحبس والحجر والمهانة، ولا عائق فيه لحريّة المرأة [وكأنّه مع حريّة المرأة] وإنّما الحجاب مانع الغواية والتبرّج".41 ويقصّ علينا الشاعر التونسي عبد الرحمان الكافي حواريةً بين أبٍ طالَب ابنته بارتداء الحجاب، في حين تمسّكَت هي بالسفور مبديةً شجاعةً نادرةً في ذلك الوقت، ورأي الأب في الحقيقة هو رأي الشاعر عبد الرحمان الكافي، الذي يقول: 

قالها الوالد يا غشيمة (جاهلة)    ***    بطّلْ ها التخمام

المعرّي (اللباس العاري) ما عندو قيمة    ***    يبراد ويشوامْ

قالتلو البنت الضبضابة (الطائشة)   ***    ما نطيقش عتابْ

انتيكة (قديم) فكرك يا بابا    ***    توة الراي شبابْ

علاش زينه نخبّيه رزيّه    ***    لا تشوفاش أنظاره42

هذا الجسد الذي "يقف أمام تقدّم الرجل" هو نفسه الجسد الذي يبرّر "تفوّق الرجل الفطريّ على المرأة" عند العقّاد، باعتبار أنّ ضعفًا ملازمًا يعتريه كالحيض والحمل والرضاعة،43 وهذا التعليل استند عليه كثيرٌ من الفقهاء لتبرير تعدّد الزوجات.

هؤلاء الأدباء المتحيّزين قدّموا أنفسهم في عصرهم كدعاة إصلاحٍ ونهضة، بل إنّهم لم يكتفوا باتّباع أسلافهم في موقفهم من النساء وإنّما "نظّروا" لدونية منزلتهنّ، وهو تنظيرٌ لا مثيل له في الأدب العربي القديم

حافظ أدباء الحضارة العربية في عهود الخلافة على قيمتهم في ميزان النقد الأدبي على الرغم من النظرة الدونية للنساء لدى غالبيتهم، مثل المعريّ الذي كان من أشدّ كارهي النساء، لكنّ ذلك قد يُبرّر بتخلّف الوعي بحقوقهنّ حينذاك، وبتطبيع تاريخٍ كاملٍ مع مكانتهنّ الدونية وسط انعدام أيّ مقاومةٍ واسعةٍ من داخل الثقافة. أمّا الذي لا يمكن تبريره، فهو صدور مثل تلك المواقف عن أدباء درسَت غالبيتهم في جامعاتٍ غربيةٍ في العصر الحديث حيث اطّلعوا على ما يمكن أن تنتجه النساء بفعل تحرّرهنّ، وهم الذين عاصروا الموجات النسوية في الخارج والنضالات الحقوقية التي قادَتها نساءٌ ورجالٌ في بلدانهم من أجل التحرّر. والواقع أنّ هؤلاء الأدباء المتحيّزين قدّموا أنفسهم في عصرهم كدعاة إصلاحٍ ونهضة، بل إنّهم لم يكتفوا باتّباع أسلافهم في موقفهم من النساء وإنّما "نظّروا" لدونية منزلتهنّ، وهو تنظيرٌ لا مثيل له في الأدب العربي القديم الذي يَشي الغزلُ فيه مثلًا عن قيمة المرأة في حياة الرجل العربي على الرغم من دونية منزلتها اجتماعيًا. والأخطر من هذا التنظير الرجعيّ أنّ غالبية هؤلاء الأدباء اتّخذوا من تجاربهم العاطفية المحدودة مراجع أخلاقيةٍ لترسيخ دونية النساء، مستغلّين في ذلك سلطتهم المعنويّة على القرّاء بالاستناد إلى مستواهم الأكاديمي والمعرفي.

 

 

  • 1. أدونيس، "بيان الحداثة"، 1979/1992، ضمن "البيانات"، تقديم محمّد لطفي اليوسفي، تونس، دار سيراس، 1995، ص. 22.
  • 2. عبد الواحد المكني، "زمان الألوان"، تونس، دار محمّد علي للنشر، 2022، ص. 170.
  • 3. عبّاس محمود العقّاد، الفيلسوف الذي أُعجب به عدوّ المرأة، للنظر: نوال السعداوي، "عن المرأة"، المملكة المتّحدة، مؤسسة هنداوي، 2022، ص. 76.
  • 4. رجاء بن سلامة، "بنيان الفحولة"، تونس، دار بترا للنشر والتوزيع، 2005، ص. 154-155.
  • 5. محمّد السيّد شوشته، "نساء في حياة عدوّ المرأة"، مصر، مؤسّسة أخبار اليوم، د.ت، ص. 6-7.
  • 6. الشكلانيّون الروس هم مجموعة من الطلبة نشطوا في النصف الأول من القرن العشرين، وتسميتهم مستمدة من دعوتهم للاعتناء بالشكل في النص الأدبي أي بالهيكل البنيوي الذي يتضمّن مثلًا الشخصيات، والأمكنة، والأزمنة وغيرها بقطع النظر عن بيئة الكاتب وظروفه.
  • 7. فيكتور إيرليخ، "الشكلانية الروسيّة"، ترجمة الولي محمّد، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2000، ص. 13 وما بعدها.
  • 8. نوال السعداوي، "عن المرأة"، المملكة المتّحدة، مؤسّسة هنداوي، 1988، ص. 81.
  • 9. المصدر نفسه، ص. 83.
  • 10. ألفة يوسف، "بين اثنين"، ضمن ندوة "صورة المرأة في الرواية العربيّة"، تونس، منتدى الروائيّين العرب، 12-13-14/09/2003، تونس، دار سحر، 2005، ص. 17.
  • 11. محمود طرشونة، "دراسات في أدب المسعدي"، تونس، دار رؤى، 2014، ص. 12.
  • 12. توفيق الحكيم، "تحت شمس الفكر"، مصر، مكتبة مصر، 1939، ص. 168.
  • 13. محمود طرشونة، مصدر سابق، ص. 5 و14.
  • 14. نوال السعداوي، مصدر سابق، ص. 75.
  • 15. عبّاس محمود العقّاد، "المرأة في القرآن"، المملكة المتّحدة، مؤسّسة هنداوي، 2014، ص. 12.
  • 16. المصدر نفسه، ص. 49.
  • 17. المصدر نفسه، ص. 31.
  • 18. المصدر نفسه، ص. 11-12.
  • 19. الحسن اليوسي، "زهر الأكم في الأمثال والحكم"، تحقيق محمد حجي ومحمد الأخضر، الدار البيضاء، المغرب، الشركة الجديدة للنشر، 1981، ج. 3، ص. 187.
  • 20. نوال السعداوي، مصدر سابق، ص. 78.
  • 21. ألفة يوسف، مصدر سابق، ص. 16.
  • 22. عبّاس محمود العقّاد، مصدر سابق، ص. 9.
  • 23. الطاهر الحدّاد، "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، الدار التونسية للنشر، تونس، 1985، ص. 43.
  • 24. عن نوال السعداوي، مصدر سابق، ص. 80.
  • 25. عبّاس محمود العقّاد، مصدر سابق، ص. 38.
  • 26. عبّاس محمود العقّاد، "سارّة، ثنائية الحبّ والشكّ"، تقديم معتز خلوصي، مصر، دار ملتقى، 2017، ص. 6.
  • 27. المصدر نفسه.
  • 28. نقلَته السعداوي، مصدر سابق، ص. 77.
  • 29. محمود المسعدي، "السدّ"، تونس، دار الجنوب، 1982، ص. 108.
  • 30. محمود المسعدي، "حدّث أبو هريرة قال..."، تونس، دار الجنوب، ص. 154.
  • 31. نقل محمود طرشونة هذا الحوار في كتابه، مصدر سابق، ص. 14. ويبدو أنّه هو مَن حاوره.
  • 32. نوال السعداوي، مصدر سابق، ص. 90.
  • 33. لقبٌ أطلقَته الناشطة المصرية هدى شعراوي على الحكيم، انظر محمد السيّد شوشته، مصدر سابق، ص. 4.
  • 34. توفيق الحكيم، "بجماليون"، مصر، مكتبة مصر، 1943، ص. 61.
  • 35. عبّاس محمود العقّاد، مصدر سابق، ص. 37.
  • 36. توفيق الحكيم، تحت شمس الفكر، مصدر سابق، ص. 160-161.
  • 37. المصدر نفسه، ص. 162.
  • 38. توفيق الحكيم، "بجماليون"، مصدر سابق، ص. 67.
  • 39. توفيق الحكيم، "تحت شمس الفكر"، مصدر سابق، ص. 166.
  • 40. مصدر سابق، ص. 169.
  • 41. عبّاس محمود العقّاد، مصدر سابق، ص. 62.
  • 42. محمد المرزوقي، "الأدب الشعبي"، الدار التونسيّة للنشر، تونس، 1967، ص. 158-160.
  • 43. عبّاس محمود العقّاد، مصدر سابق، ص. 14.